سانشيز- صفحة جديدة في إسبانيا نحو التعايش والتنوع

لم تكن رحلة بيدرو سانشيز، الزعيم المحنّك للحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، نحو الاحتفاظ بمنصبه الرفيع كرئيس للحكومة للمرة الثالثة على التوالي، طريقًا سهلاً ومفروشًا بالورود، خاصة وأن حزبه لم يحرز الأغلبية الحاسمة في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي شهدتها البلاد. ومع ذلك، وبفضل خبرته السياسية العميقة وحنكته التواصلية البارزة، استطاع هذا السياسي المخضرم تشكيل حكومة جديدة في البلاد، مدعومًا بأغلبية مريحة بلغت 179 عضوًا في البرلمان، في مقابل معارضة من 171 عضوًا.
لعب الانفصاليون الكتالان، المنضوون تحت لواء حزب "جميعًا من أجل كتالونيا"، دورًا محوريًا في هذا التنصيب، وذلك بفضل المقاعد السبعة التي ظفروا بها داخل أروقة البرلمان. ويضاف إليهم أيضًا حزب اليسار الجمهوري الكتالاني، الذي يعارض بشدة النظام الملكي القائم، والذي يتبنى هو الآخر بقوة فكرة استقلال كتالونيا عن الحكومة المركزية في مدريد.
كما تلقى سانشيز دعمًا قويًا من أعضاء حزب سومار، الذي تتزعمه يولاندا دياز، والذي يُعد أحد الأحزاب الأساسية في الائتلاف الحكومي، جنبًا إلى جنب مع الحزب الاشتراكي العمالي الذي يمثله رئيس الحكومة بيدرو سانشيز. وبالإضافة إلى ذلك، حظي بدعم حزبين من منطقة الباسك، وهما: حزب "أشي بلدو" اليساري الانفصالي، الذي يعارض هو الآخر النظام الملكي، والحزب الوطني الباسكي. وأخيرًا، انضمت إلى هذا التحالف حكومة حزبين محليين صغيرين، هما: حزب التكتل الوطني لغاليسيا ذو التوجه اليساري، وحزب ائتلاف كنارياس.
صفحة جديدة
صحيح أن حزب سانشيز لم يتمكن من الحصول سوى على 122 مقعدًا في البرلمان، في حين أن الأغلبية المطلقة تتطلب 176 مقعدًا، نظرًا لأن إجمالي عدد مقاعد البرلمان يبلغ 350 مقعدًا، إلا أن الدعم القوي الذي حظي به من باقي الأحزاب التقدمية واليسارية، وعلى رأسها حزب سومار الذي يمتلك 31 مقعدًا في البرلمان، مكّنه من الفوز بمنصب رئيس الحكومة. وهذا أمر طبيعي ومنطقي في سياق نظام سياسي برلماني، حيث أن الحزب الفائز هو ذلك الذي يتمكن من الحصول على أغلبية الأصوات، سواء من خلال أصوات أعضائه، أو من خلال أصوات الأحزاب الأخرى الداعمة له داخل البرلمان، وذلك بخلاف الأنظمة ذات الطبيعة الرئاسية.
لقد استطاع سانشيز ببراعة إقناع جميع الأحزاب المذكورة أعلاه، وذلك من خلال فريق عمل أظهر قدرة فائقة على تذليل مختلف العقبات والصعاب مع أحزاب ترفض استمرار الوحدة مع إسبانيا القشتالية. لقد آمن سانشيز بأن إسبانيا أوسع وأكبر من مجرد المركز ومنطقة قشتالة. ويتجلى هذا الإيمان بوضوح من خلال إقرار استعمال اللغات المحلية، كلغة جهة كتالونيا، ولغة جهة الباسك، ولغة جهة غاليسيا، وذلك لأول مرة في تاريخ الكورتيس الإسباني، بل وفي تاريخ إسبانيا السياسي بأكمله. لقد آمن سانشيز بأن النظام السياسي الإسباني، المرتبط بمرحلة التحول الديمقراطي ودستور عام 1978، يحتاج إلى تطوير وتجديد مستمر.
هذا النظام الذي يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، اعتُبر في ذلك الوقت بمثابة عملية ترميم شاملة وتضميد للجراح الجماعية لجميع مكونات الشعب الإسباني بمختلف حساسياته وقواه السياسية والمناطقية. بعد أن اتفق الجميع حينها، قوى اليمين بزعامة أدولفو سواريس، والمؤسسة الملكية ممثلة في الملك السابق خوان كارلوس، وقوى اليسار بمختلف تشكيلاته الاشتراكية والشيوعية، على أن الديمقراطية هي الخيار الاستراتيجي الأمثل والوحيد لبلد يسعى جاهدًا للدخول إلى النادي الأوروبي، ويعيش في سياق دولي مساعد على إطلاق دينامية التحول الديمقراطي.
بيدرو سانشيز على قناعة تامة بأن النظام الديمقراطي الإسباني المرتبط بدستور عام 1978 قد استنفد بالفعل جزءًا كبيرًا من أغراضه وشروطه، وأنه قد آن الأوان لفتح صفحة جديدة ومشرقة في تاريخ إسبانيا السياسي. صفحة من شأنها أن تنقل البلاد إلى مرحلة أكثر تقدمًا من التعايش السلمي بين الانفصاليين الكتالان وإسبانيا المركز، وذلك بعد ما شهدته إسبانيا من اعتقالات ومحاكمات سياسية، وهروب رئيس الحكومة الجهوية لكتالونيا، كارلس بوتجيمون، وبعض أعضاء حكومته ومعاونيه، إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، طلبًا للدعم الأوروبي والدولي بعد الاستفتاء الذي تم تنظيمه عام 2017 من قبل الحكومة الجهوية، والذي قوبل بمعارضة شديدة من حكومة اليمين في مدريد وقتها بزعامة ماريانو راخوي.
تم التوصل إلى اتفاق بين القوى الانفصالية والحزب الاشتراكي العمالي، بقيادة سانشيز، على إقرار قانون العفو الشامل، باعتباره – حسب تصور سانشيز – ممرًا إلزاميًا لعبور إسبانيا إلى عهد جديد ومزدهر. عهد يسمح للانفصاليين بمناقشة همومهم وتطلعاتهم وطبيعة ارتباطهم بإسبانيا، وإطلاق حوار جدي ومسؤول حول الانفصال وتقرير المصير تحت رعاية دولية، ولكن داخل الإطار الذي ينص عليه الدستور الإسباني وليس خارجه.
وهو الأمر الذي سمح لزعيم الحزب الاشتراكي العمالي بالوصول إلى رئاسة الحكومة، على الرغم من النقاش القانوني والدستوري الحاد الذي أثاره هذا القانون، والذي لا يزال مستمرًا داخل إسبانيا وخارجها. فالقانون المعدّل، وبعد المصادقة عليه في مجلس النواب في الرابع عشر من شهر مارس/آذار الماضي، ينتظر التصديق النهائي بعد تمريره في مجلس الشيوخ في الأيام القادمة، ليتم اعتماده بشكل نهائي من قبل الكورتيس الإسباني.
لكن سانشيز ما فتئ يؤكد، سواء داخل أروقة البرلمان، أو داخل الحكومة، أو في أروقة الاتحاد الأوروبي، أن ما يقوم به لا يتعارض بأي شكل من الأشكال مع الدستور، موجهًا سهام نقده اللاذع إلى اليمين، المتمثل في الحزب الشعبي وحزب فوكس المتطرف، المعارضين بشدة لهذا القانون والمتشبثين بمركزية مدريد في إدارة الصراع مع الانفصاليين.
صراع حاد
وقد ذهب حزب فوكس إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبر أن الحزب الاشتراكي العمالي بزعامة سانشيز قد انتهك الدستور بشكل صارخ، مهددًا باللجوء إلى المحكمة الدستورية في حالة ما إذا تمت المصادقة النهائية على هذا القانون، الذي اجتاز عتبة الغرفة الأولى بعد إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليه، وذلك بضغط من القوى الانفصالية التي منحت لحكومته الدعم اللازم في البرلمان.
هكذا يصل زعيم الاشتراكيين إلى سدة الحكم للمرة الثالثة على التوالي: كانت المرة الأولى في الأول من يونيو/حزيران عام 2018، بعد الإطاحة بحكومة ماريانو راخوي اليمينية عبر ملتمس رقابة طبقًا للفصلين 113 و 114 من الدستور الإسباني، مما سمح بسحب الثقة عن هذه الحكومة وصعود سانشيز إلى رئاسة الحكومة.
بعد ذلك، ترأس الحكومة للمرة الثانية بعد فوزه المستحق في الانتخابات التشريعية العامة التي أجريت عام 2019. وها هو اليوم يحقق فوزًا جديدًا برئاسة الحكومة في انتخابات 23 يوليو/تموز 2023 الماضي، بعد أن تعثر غريمه السياسي اللدود، زعيم الحزب الشعبي ألبرتو نونياس فيخو، في استمالة باقي الأحزاب السياسية لكسب دعمها داخل البرلمان.
والحقيقة المرة هي أن أطروحة اليمين لم تستطع وضع حد لهذا الصراع السياسي الحاد، الذي كاد أن يعصف بوحدة إسبانيا، وهو صراع أصبح أكثر حدة وتوترًا في العقد الأخير بين الانفصاليين وحكومة مدريد. هذه الأطروحة اليمينية عجزت تمامًا عن إيجاد حلول ناجعة لموضوع الانفصال، حيث أن رئيس الحكومة السابق ماريانو راخوي، سبق له أن فعّل الفصل 155 من الدستور الإسباني، الذي ينص على تعليق صلاحيات الحكومات الجهوية، إذا لم تلتزم بالدستور، كالدعوة إلى الانفصال عن المركز أو تنظيم استفتاء يدعو إلى ذلك.
وهو الأمر الذي أشعل فتيل الأزمة بين الانفصاليين والحكومة اليمينية. نفس التوجه يطالب به زعيم الحزب الشعبي اليوم ألبرتو نونياس فيخو، وهو ما أضعف موقف الحزب، وقلّل من حظوظ تحالفه مع باقي الأحزاب للوصول إلى رئاسة الحكومة. بل إن هذا التوجه ينذر بتراجع مكانة الحزب وتأثيره في السنوات القادمة.
تعميق قيم التعايش
بيدرو سانشيز استطاع بذكاء التقاط الإشارات وفهم دلالات وأبعاد معارضة اليمين لفكرة الانفصال، واقترح قانون العفو الشامل الذي تجري مناقشته اليوم داخل الكورتيس، والذي من المتوقع أن يدخل حيز التنفيذ في نهاية شهر مايو/أيار الجاري، بعد استكمال مسطرة التشريع في مجلس الشيوخ، والذي من شأنه أن يفتح لإسبانيا صفحة جديدة ومشرقة لتجاوز نظام سياسي برلماني سبق له أن نقل إسبانيا من دكتاتورية فاشية بغيضة إلى ديمقراطية تعددية رحبة.
وها هو اليوم يعبر ببلاده نحو آفاق جديدة ومزدهرة، تحتاج فيها إسبانيا إلى استيعاب النخب في المناطق ذات النزعة الانفصالية (كتالونيا، الباسك، غاليسيا)، وطمأنتها من خلال استيعاب هواجسها وتطلعاتها، وتعميق قيم التعايش السلمي والتنوع الثقافي، ونبذ الإقصاء والتهميش والقمع وكل أشكال التعصب، وقبل ذلك انتهاج سياسات حكيمة تجعلها مقتنعة تمام الاقتناع بأن مصالحها الحقيقية تكمن في الحفاظ على وحدة إسبانيا، حتى لو اقتضى الأمر منح تلك المناطق صلاحيات واسعة في تدبير شؤونها بشكل أكبر مما يتيحه لها الدستور الإسباني الحالي.
سانشيز كان قد هدد بالاستقالة من منصبه الرفيع كرئيس للحكومة، وتوارى عن الأنظار لمدة خمسة أيام كاملة، للتفكير مليًا في الأمر بعد أن تقدمت جمعية تُطلق على نفسها اسم "أيادي نظيفة"، وهي جمعية تابعة لليمين المتطرف، بشكوى تتهم فيها زوجته بيغونيا غوميز بالفساد في حملة كيدية تستهدف تشويه صورته وتقويض مشروعه التجديدي، ليُعلن بعدها قراره الحاسم بالاستمرار على رأس الحكومة، موجهًا بذلك ضربة قاصمة لخصومه في اليمين، وخاصة جناحه المتطرف الذي يشدّه الحنين إلى المرحلة الفاشية المظلمة، والذي كان يراهن على استقالته للعودة بإسبانيا إلى الوراء.
وإذا كانت النتائج الإيجابية للانتخابات الجهوية التي جرت بعد ذلك في منطقة كتالونيا، والتي أسفرت عن فوز كبير للاشتراكيين، قد أكدت صوابية وواقعية خطاب سانشيز وتزايد شعبية مشروعه الطموح الذي يقدّمه لبناء إسبانيا الجديدة، فإنها أيضًا أكسبت هذا المشروع زخمًا كبيرًا كان يتطلّع إليه اليسار الحاكم في هسبانيا (أرض الغروب القاصية) كما سمّاها الإغريق في إطار تقسيمهم للعالم الغربي القديم.
